سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


فالمعنى في هذه الآية الرد على المنافقين في معتقدهم في المؤمنين، وإزالة ظنهم أن المؤمنين تنزل بهم مصائب، والإعلام بأنها حسنى كيف تصرفت، و{تربصون} معناه تنتظرون والحسنيان الشهادة والظفر وقرأ ابن محيصن: {إلا احدى الحسنيين} بوصل ألف {إحدى}.
قال القاضي أبو محمد: وهذه لغة ليست بالقياس وهذا مثل قول الشاعر: [الكامل]
يا أبا المغيرة رب أمر معضل ***
وقول الآخر: [الكامل]
إن لم أقاتل فالبِسيني برقعا ***
وقوله {بعذاب من عنده}، يريد الموت بأخذات الأسف، ويحتمل أن يكون توعداً بعذاب الآخرة، وقوله {بأيدينا}، يريد القتل وقيل {بعذاب من عنده} يريد أنواع المصائب والقوارع وقوله: {فتربصوا إنَّا معكم متربصون} وعيد وتهديد، وقوله {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} سببها: أن الجد بن قيس حين قال: {ائذن لي ولا تفتني} [التوبة: 49] قال إني أعينك بمال فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده، والطوع والكره يعمان كل إنفاق، وقرأ ابن وثاب والأعمش {وكُرها} بضم الكاف.
قال القاضي أبو محمد: ويتصل هاهنا ذكر أفال الكافر إذا كانت براً كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة المظلوم هل ينتفع بها أم لا، فاختصار القول في ذلك أن في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها» ونحو ذلك، فهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر وأما ينتفع بها في الآخرة فلا، دليل ذلك أن عائشة أم المؤمنين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله: أرأيت عبد الله بن جدعان أينفعه ما كان يطعم ويصنع من خير فقال: «لا إنه لم يقل يوماً، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ودليل آخر في قول عمر رضي الله عنه لابنه: ذاك العاصي بن وائل لا جزاه الله خيراً وكان هذا القول بعد موت العاصي، الحديث بطوله، ودليل ثالث في حديث حكيم بن حزام على أحد التأويلين: أعني في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسلمت على ما سلف لك من خير»، ولا حجة في أمر أبي طالب كونه في ضحضاح من نار لأن ذلك إنما هو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه وجده في غمرة النار فأخرجه، ولو فرضنا أن ذلك بأعماله لم يحتج إلى شفاعة، وأما أفعال الكافر القبيحة فإنها تزيد في عذابه وبذلك هو تفاضلهم في عذاب جهنم، وقوله: {أنفقوا} أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جواب فالتقدير: إن لم تنفقوا لم يتقبل منكم، وأما إذا عري الأمر من جواب فليس يصحبه تضمن الشرط.


يحتمل أن يكون معنى الآية: وما منعهم الله من أن تقبل إلا لأجل أنهم كفروا، ف {أن} الأولى على هذا في موضع خفض نصبها الفعل حين زال الخافض، وأن الثانية، في موضع نصب مفعول من أجله، ويحتمل أن يكون التقدير: وما منعهم الله قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم، فالأولى على هذا في موضع نصب، ويحتمل أن يكون المعنى: وما منعهم الله قبول نفقاتهم إلا كفرهم، فالثانية في موضع رفع فاعلة، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم: {أن تقبل منهم نفقاتهم} وقرأ حمزة والكسائي ونافع فيما روي عنه: {أن يقبل منهم نفقاتهم} بالياء وقرأ الأعرج بخلاف عنه: أن تقبل منهم نفقتهم بالتاء من فوق وإفراد النفقة، وقرأ الأعمش، {أن يقبل منهم صدقاتهم}، وقرأت فرقة: {أن نقبل منهم نفقتهم} بالنون ونصب النفقة، و{كسالى} جمع كسلان، وكسلان إذا كانت مؤنثته كسلى لا ينصرف بوجه وإن كانت مؤنثته كسلانة فهو ينصرف في النكرة ثم أخبر عنهم تعالى أنهم لا ينفقون دومة إلا على كراهية إذ لا يقصدون بها وجه الله ولا محبة المؤمنين، فلم يبق إلا فقد المال وهو من مكارههم لا محالة، وقوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم} الآية، حقر هذا اللفظ شأن المنافقين وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها، واختلف في وجه التعذيب فقال قتادة: في الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة}، وقال الحسن: الوجه في التعذيب أنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في قوله {بها} عائد في هذا القول على الأموال فقط، وقال ابن زيد وغيره: التعذيب هو بمصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها، وهذا القول وإن كان يستغرق قول الحسن فإن قول الحسن يتقوى تخصيصه بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا وذلك لاقتران الذلة والغلبة بأوامر الشريعة لهم قوله: {وتزهق انفسهم}، يحتمل أن يريد ويموتون على الكفر، ويحتمل أن يريد {وتزهق أنفسهم} من شدة التعذيب الذي ينالهم، وقوله {وهم كافرون} جملة في موضع الحال على التأويل الأول، وليس يلزم ذلك على التأويل الثاني، وقوله {ويحلفون} الآية، أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون أنهم من المؤمنين في الدين والشريعة ثم أخبر تعالى عنهم على الجملة لا على التعيين أنهم ليسوا من المؤمنين، وإنما هم يفزعون منهم فيظهرون الإيمان وهو يبطنون النفاق، والفرق، الخوف، والفروقة الجبان وفي المثل وفرق خير من حبين.


الملجأ من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم، وقرأ جمهور الناس {أو مَغارات} بفتح الميم، وقرأ سعيد بن عبد الرحمن بن عوف {أو مُغارات} بضم الميم وهي الغيران في أعراض الجبال ففتح الميم من غار الشيء إذا دخل كما تقول غارت العين إذا دخلت في الحجاج، وضم الميم من أغار الشيء غيره إذا أدخله، فهذا وجه من اشتقاق اللفظة، وقيل إن العرب تقول: غار الرجل وأغار بمعنى واحد أي دخل، قال الزجّاج: إذا دخل الغور فيحتمل أن تكون اللفظة أيضاً من هذا.
قال القاضي أبو محمد: ويصح في قراءة ضم الميم أن تكون من قولهم حبل مُغار أي مفتول ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبروم، فيجيء التأويل على هذا: لو يجدون عصرة أو أموراً مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلاً لولوا إليه، وقرأ جمهور الناس {أو مُدخلاً} أصله مفتعل وهو بناء تأكيد ومبالغة ومعناه السرب والنفق في الأرض، وبما ذكرناه في الملجأ والمغارات، والمُدخل فسر ابن عباس رضي الله عنه، وقال الزجّاج المُدخل معناه قوماً يدخلونهم في جملتهم وقرأ مسلمة بن محارب والحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه {أو مَدخلاً} فهذا من دخل وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش {أو مدّخّلاً} بتشديدهما وقرأ أبي بن كعب {مندخلاً} قال أبو الفتح هذا كقول الشاعر [الكميت]: [البسيط]
ولا يدي في حميت السمن تندخل ***
قال القاضي أبو محمد: وقال أبو حاتم: قراءة أبي بن كعب {متدخلاً} بتاء مفتوحة، وروي عن الأعمش وعيسى {مُدخلاً} بضم الميم فهو من أدخل، وقرأ الناس {لولوا} وقرأ جد أبي عبيدة بن قرمل {لوالوا} من الموالاة، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال: أظن لوالوا بمعنى للجؤوا، وقرأ جمهور الناس، {يجمحون} معناه يسرعون مصممين غير منثنين، ومنه قول مهلهل: [البسيط]
لقد جمحت جماحاً في دمائهم *** حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا
وقرأ أنس بن مالك {يجمزون} ومعناه يهربون، ومنه قولهم في حديث الرجم: فلما إذ لقته الحجارة جمزة، وقوله تعالى: {ومنهم من يلمزك} الآية، الضمير في قوله {ومنهم} عائد على المنافقين، وأسند الطبري إلى أبي سعيد الخدري أنه قال: جاء ابن ذي الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً فقال: اعدل يا محمد الحديث المشهور بطوله، وفيه قال أبو سعيد: فنزلت في ذلك {ومنهم من يلمزك في الصدقات}، وروى داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقة فقسمها ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة منافق، وكذلك روي من غير ما طريق أن الآية نزلت بسبب كلام المنافقين إذ لم يعطوا بحسب شطط آمالهم، و{يلمزك} معناه يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة *** وأن أغيب فأنت الهامز اللمزة
ومنه قول رؤبة: [الرجز]
في ظل عصري باطلي ولمزي ***
والهمز أيضاً في نحو ذلك ومنه قوله تعالى {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة: 1] وقيل لبعض العرب: أتهمز الفأرة فقال: إنها تهمزها الهرة قال أبو علي: فجعل الأكل همزاً، وهذه استعارة كما استعار حسان بن ثابت الغرث في قوله: [الطويل]
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل *** تركيباً على استعارة الأكل في الغيبة.
قال القاضي أبو محمد: ولم يجعل الأعرابي الهمز الأكل، وإنما أراد ضربها إياها بالناب والظفر، وقرأ جمهور الناس {يلمِزك} بكسر الميم، وقرأ ابن كثير فيما روى عنه حماد بن سلمة {يلمُزك} بضم الميم، وهي قراءة أهل مكة وقراءة الحسن وأبي رجاء وغيرهم، وقرأ الأعمش {يُلمّزك}، وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير {يلامزك}، وهي مفاعلة من واحد لأنه فعل لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله} الآية، وصف للحال التي ينبغي أن يكون عليها المستقيمون، يقول تعالى: ولو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله الرزق لهم وما أعطاهم على يدي رسوله ورجوا أنفسهم فضل الله ورسوله وأقروا بالرغبة إلى الله لكان خيراً لهم وأفضل مما هم فيه، وحذف الجواب من الآية لدلالة ظاهر الكلام عليه، وذلك من فصيح الكلام وإيجازه.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12